logo

أهلا وسهلا بك زائرنا الكريم في منتديات كويك لووك ، لكي تتمكن من المشاركة ومشاهدة جميع أقسام المنتدى وكافة الميزات ، يجب عليك إنشاء حساب جديد بالتسجيل بالضغط هنا أو تسجيل الدخول اضغط هنا إذا كنت عضواً .





23-11-2012 02:49 مساءً
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 8
المشاركات : 3082
الدولة : Egypt
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 929
التعليم : ابتدائي
الهواية : شعر

«وفضلت أعيش فى قلوب الناس وكل عاشق قلبى معاه»

6-5-2012-22-17-8506
ترى هل كانت أم كلثوم تعرف وهى تتغنى بهذه الكلمات من شعر أحمد رامى أننا سنظل نبحث عن سرها جيلا بعد جيل ؟
مع كل أغنية نسمعها لها نسأل .. ما هذا السحر الذى يزيد مع الزمن سحرا ؟ ما السر الذى شغفنا بها حبا ؟
.. «دولة أم كلثوم» هو الكتاب الثالث عن كوكب الشرق للناقد الفنى والسينمائى الكبير عبد النور خليل، أصدر كتابه الأول عنها بعنوان : «رجال فى حياة أم كلثوم» عام 1992، وكتابه الثانى «كوكب الشرق أم كلثوم وقصص حب لم تنشر» عام 1996، محاولاً أن يجلو لنا سر أم كلثوم يمضى بنا عبدالنور خليل فى كتابه الجديد، وقد استهله بقصيدة لعباس العقاد كان قد كتبها احتفاءً بكوكب الشرق بعد عودتها سالمة من رحلة العلاج الشهيرة عام 1962، والقصيدة بعنوان «فى الفن أنبياء» .
والطريف أن هذه القصيدة تنتهى بالسؤال الذى يسأله العقاد لأم كلثوم نفسها، وكأنه يقول لها : ما سرك العبقرى ؟
فيقول العقاد فى قصيدته :
أيها الكوكب الذى أسعد الأرض باللقاء.
ردد الطرف فى الفضاء وما أرحب الفضاء
وأسأليه سؤال من يسأل الطير فى الهواء
هل سرى فيه مثل صوتك فى الحسن والنقاء
فى قديم الزمان أعنى وفى حاضر سواء ؟
* تاريخ ميلادها الحقيقى !
ولدت أم كلثوم عام 1904 فى قرية طماى الزهايرة - مركز السنبلاوين مديرية الدقهلية، ورحلت فى الأسبوع الأول من فبراير 1975 عن عمر يناهز السبعين عاما، ورغم أن الناقد الموسيقى الراحل كمال النجمى فى كتابه «محمد عبد الوهاب مطرب المائة عام» يقول : «إن عام 1904 المثبت فى شهادة ميلاد أم كلثوم لم يكن تاريخ ميلادها الحقيقى، بل كان عام بدء تسجيل المواليد والأطفال الصغار فى مديرية الدقهلية، وكانوا حتى من وصلوا سن السادسة منهم يثبت ميلاده فى هذه السنة» .
daily2.458103
ولكن الثابت أن مائة عام قد تزيد قليلا قد مضت على ميلاد أم كلثوم، وقد بدأت أم كلثوم رحلتها فى ريف الدقهلية رحلة الصعود إلى القمة، فى تلك اللحظة التى أدركت فيها نقطة البداية .. بداية انطلاق كوكب فيقول عبد النور خليل :
تشبثت أم كلثوم بالذهاب إلى كتاب القرية وحفظ القرآن، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة إلى درجة الصيام عن الطعام حتى يأذن لها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى إمام جامع القرية ومؤذنها ومنشدها الصييت أن تذهب، فتتعلم فى الكُتاب، وكأنما كانت تدرك ببصيرة واعية أن تلك هى البداية.
ثم يقول : كانت قريتى لا تبعد عن قريتها مسقط رأسها أكثر من عشرة كيلو مترات، وكانت تلك هى البداية، وصورة الصبية المعجزة التى ملأت أفراح الناحية ومناسباتها كليالى الموالد وحفلات الزواج والطهور شدواً وترنماً ماتزال تهوم فى رءوس العجائز من أهلنا، وكل منهم يزهو ويفخر بأنه سمعها، وحضر المناسبة التى غنت فيها.. هكذا كانت بداية انتمائى إلى «دولة أم كلثوم».
ويحتفظ مصطفى أمين بصورة قلمية لكوكب الشرق فى هذه المرحلة عندما انتقلت من قريتها طماى الزهايرة فيقول :
كنت تلميذا فى المدارس الابتدائية، وكانت شابة صغيرة تغنى فى صالة سانتى بحديقة الأزبكية .
كانت ترتدى شبه عباءة، وعلى رأسها العقال، ورأيتها واقفة بين القانونجى القديم العقاد .. وبين الشاعر أحمد رامى أستاذى فى الترجمة بمدرسة المنيرة الابتدائية وكانت فتاة صغيرة فاتنة، تغنى القصائد والتواشيح، ولكنها كانت تستطيع دائما أن تسيطر على الموجودين فى الصالة فيتوقف الكلام، وينتبه السكارى، وتسكت المشاجرات والخناقات، وعرفتها بعد ذلك كصحفى يكتب عن نجمة مشهورة ثم عرفتها كإنسانة وامرأة عظيمة، وفى كل هذه السنين شعرت أن هذه المرأة شخصية غير عادية، إنها مثل النيل والأهرام إنها المرأة الوحيدة فى العالم التى مكثت أكثر من ثلاثين عاما، وهى سيدة الغناء فى منطقة واسعة تمتد من المحيط الهندى إلى المحيط الأطلسى».
* هذه الإحصائية!!


أما فكرى أباظة فيثير أسئلة أخرى عن لغز أم كلثوم فيقول :
أسائل نفسى دائماً أهى فقط ملكة الطرب ؟ أم ملكة «خفة الروح» ؟ أم ملكة الذوق السليم فى زيها؟ أم ملكة البر والإحسان مما يعرفه أحد من عشاقها والمعجبين بها ؟
فى حفلة كبرى أقامتها لجنة الفنون العليا برئاسة الأستاذ المرحوم محمد محمود خليل فى نادى الموسيقى تكريما لمعجزاتها الفنية قلت : إن هذا العصر سيسمى فى عالم الشعر وعالم الطرب عصر أحمد شوقى، وعصر أم كلثوم .. نعم أعرفها منذ أن لم تكن معروفة إلى أن عرفها الملايين فى الشرق العربى كله، ومحطات الإذاعة فى جميع أنحاء العالم القديم فى أوروبا وآسيا وإفريقية والأوقيانوس والعالم الجديد فى أمريكا الشمالية والجنوبية !
أعرفها منذ أن كانت تهرب من التخت فجأة، وتختفى تحته عندما تفد قطة داخل الصيوان !
ومنذ أن كانت هى وأفراد التخت يسافرون من الفجر مقابل أجر متواضع إلى أن يصلوا فى المساء إلى قرية صغيرة لإحياء فرح، فتجد القرية مظلمة وتبحث عن دار أهل الفرح وتطرق باب الدار فيقولون لها بكل بساطة :
«الله! ما هو الفرح اتأجل فتقول لهم : الله! ولماذا لم تخطرونا بالتأجيل ؟
فيقولون لها بكل بساطة : الله ! ما هى كل البلد عارفة؟!
ثم يتحدث فكرى أباظة عن ثقافتها فيقول :
كم ألف بيت من بيوت الشعر والزجل حفظتها «أم كلثوم» ورددتها وغنتها، ورنمت بها الآذان والأذهان والرءوس والقلوب ؟، كما ألف بيت، والله إنها - هى - لا تدرى فمن يا ترى يضع لنا تلك الإحصائية ؟!


* على بلد المحبوب
وفى زمن الحرب العالمية هزم صوت أم كلثوم صوت القنابل والغارات، وتجلى فانحسرت دونه كل الأصوات، وهو يبرز صورة مصر بنيلها وناسها لتملأ قلوب مواطنيها وليخفق كل قلب وطنى بمصريته وهى تغنى من كلمات أحمد رامى :





يا مسافر على بحر النيل أنا لى فى مصر خليل
من بعده ما بنام الليل على بلد المحبوب ودينى
وعن هذه الأغنية وسر هذا الصوت المنتمى يقول عبد النور خليل فى كتابه :
كنا فى زمن الحرب العالمية الثانية، وكنا نتعرض كثيرا لساعات الإظلام أثناء الغارات، وننتظر ساعات، وليس هناك من ضوء غير أشعة عملاقة تتجول فى السماء بحثا عن الطائرات المغيرة، وكان عندنا فى الشقة الصغيرة التى نقطنها فى حى شبرا راديو من الطراز القديم يعمل ببطارية أكبر منه حجما، وكنت أمضى ساعات «الغارة» أعبث بمؤشره وموجاته، ورغم المارشات العسكرية التى لا تنقطع من إذاعتين .. محطة عربية تتبع الحلفاء بلاشك تسمى نفسها إذاعة الشرق الأدنى، وأخرى ألمانية تسمى نفسها «إذاعة برلين العربية» كانت كل منهما تصب دعاية وتنشر أخبارا عن الحرب وسير المعارك إلا أن مادتها المفضلة التى تجذب الانتباه إليها كانت صوت أم كلثوم وأغانيها، كانت ساعات الغارة تمضى حثيثة، وقد يجتذب انتباهى انفجار أو صوت مدو، أو تنساق عيناى وراء تلك المصابيح المضيئة التى تلقيها الطائرات المغيرة وتتعلق بين السماء والأرض قبل أن ينطفئ نورها .. كنت أطلق خيالى أسيراً لأحلام ورؤى ليس فيها على الإطلاق أى خوف من القنابل المتفجرة وأنا أسمع صوتها تغنى «على بلد المحبوب ودينى» .
* الزهرة تحت الندى
لقد حاول معاصروها أن يجلوا سرها فهذا أحمد رامى يصفها فيقول :
إنى أحتشد لسماعها كما استقبل عيدا من أعياد الدهر .. أحب أن أقضى وقتى لسماعها وحدى لينمحى كل جرس من أذنى عدا صوتها المنتظر ثم أدخل قبل رفع الستار بقليل حتى إذا رفع الستار ملأت عينى منها فى لحظات، ثم تبدأ الآلات تعزف فأرى مبلغ بشاشتها إلى استماع النغم ولست أعرف أحدا من الذين يغنون يطرب لسماع أو انبجاس الأوتار بالنغم كهذه الشادية، فإنها إذا سمعت رجع الأنغام أصابتها رعشة خفيفة، ثم تدب بقدمها دبا خفيفا ثم تمد جيدها وترمى بعينيها نظرة سابحة إلى آفاق بعيدة حتى إذا خفت النغم انسرب صوتها لينا رقيقا، فكأن الأوتار الصادحة لم تكف عن العزف ثم ينبثق صوتها كما تنبثق الزهرة تحت الندى .
* أوبرا أم كلثوم
وأم كلثوم التى وصفها أنيس منصور فقال : أم كلثوم أذابت الناس فيها أو ذابت هى فى الناس، فهى تغنى لهم أو هم يغنون لها أو هى تصفق لهم وهم يغنون لها» قد وضع يده على شىء من سر أم كلثوم، فأمكنه أن يقول :
إن صوتها سيبقى مئات السنين متعة شرقية ووثيقة تاريخية فهى السيدة الوحيدة فى العالم .. المطربة الوحيدة فى العالم التى تغنى الأغنية الواحدة فى ساعة وفى ساعتين.. إن الأوبرا التى يشترك فى غنائها العشرات من المطربين المختلفى الأصوات والأشكال والأزياء ووراء هم مناظر وديكور وستار يعلو ويهبط لا تزيد هذه الأوبرا على ساعة ونصف الساعة، وأحيانا ساعتين تتخللها استراحات قصيرة أو طويلة، ولكن أم كلثوم بفستان واحد ومنديل واحد، ووقفة واحدة وأوركسترا واحد ومنظر واحد ولحن واحد، وفى ليلة واحدة تستطيع أن تذيب الناس فى عرق ودموع.
* كروانة الشرق
تعاونت أم كلثوم مع كثير من الملحنين إلا أن محمد القصبجى هو أكثرهم تلحيناً لها فقد لحن لها أكثر من 120 أغنية، وقد كان من أوائل ما لحنه لها قصيدة لرامى بدأها بقوله : «إن حالى فى هواها عجب»، وكان القصبجى هو الذى اختار الشيخ محمد العقاد عازف القانون وعازف الكمان سامى الشوا لكى يكون الثلاثة تختا معاصرا خلف أم كلثوم وهى تغنى، وقد تعاونت أم كلثوم مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مدة دامت تسع سنوات قدم فيها لسيدة الغناء العربى عشر أغنيات كانت عطاء خاصا متفردا ومنها «أنت عمرى» 1964 والتى كانت لقاء السحاب بين غناء كوكب الشرق وألحان عبد الوهاب وكلمات أحمد شفيق كامل، وهو العمل الغنائى الذى تم تحقيقا للوعد الذى ارتبط به عبد الوهاب وأم كلثوم أمام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى عيد العلم، وهو يكرمهما معا بوسام العلوم والفنون بأن يتعاونا فى تقديم عمل غنائى معا .

وإذا كان خبراء الموسيقى يقولون أن حنجرة أم كلثوم لا يمكن أن تتكرر أكثر من مرة كل مائة عام فإن أم كلثوم لما أصبحت كروانة الشرق ضاعفت ساعات تمرين حنجرتها وضاعفت الساعة التى تمضيها فى عمل البروفات، فهل كان ذلك أيضا أحد أسرار عبقرية أم كلثوم كما يراها على أمين ؟
* سينما أم كلثوم
وقد أبرز عبد النور خليل فى كتابه ذلك الانتماء العميق الذى ميز شخصية كوكب الشرق، فهى لم تنفصل أبداً عن واقع مصر، وواقع نشأتها فى ريف مصر حتى وهى تختار الإطار الذى تطل منه على الجماهير فى الفيلم السينمائى فقد كانت واعية تمام الوعى بالشخصية المصرية، فيقول :
«وكانت هذه الشخصية المصرية المنفردة بالمزايا القومية الأصيلة فى شعبنا قد بدأت تنمو فى مصر فى الثلاثينيات نموا متصاعدا، وما كانت أم كلثوم تنفصل عن هذا النمو فاختارت أن تعبر فى شخصيتها السينمائية عن أبرز ما فى هذه الشخصية من الأصالة والحب للأرض والمنبت فى فيلمها «وداد»، ومن الوفاء والأصالة إلى حد التضحية بالنفس فى فيلمها «دنانير»، وحتى فى أواخر أفلامها «فاطمة» كانت بنت الحى الشعبى الوفية الأمينة المخلصة التى تتحمل عناء الحياة اليومية فى طيبة وارتباط بالمجتمع المحيط بها مما يدفع هذا المجتمع إلى مساندتها فى أزمتها فى قصة الفيلم .
لم تزد الأفلام التى مثلتها كوكب الشرق للسينما على ستة أفلام وهى «وداد» «1936»، و«نشيد الأمل» «1937»، و«دنانير» «1940»، و«عايدة» «1942»، و«سلامة» «1945»، و«فاطمة» «1947»، ولم تزد الفترة التى اهتمت فيها بالعمل فى السينما على مدى عشر سنوات من تاريخها الفنى، ولكن هذه الأفلام الغنائية الناجحة كان لها بصمة مميزة.. ففيلم «وداد» كان أول فيلم مصرى ناطق يعرض فى مهرجان فينسيا السينمائى الدولى عام 1936، وقد هداها ذكاؤها الفطرى إلى أن تختار أفلاما تكون البطولة فيها لامرأة وكانت شغوفة بالتراث والشعر العربى القديم منذ بدأ أحمد رامى يطلعها على دواوين كبار الشعراء العرب وكلفته بأن ينقب فى التراث عن قصص المطربات فى العصرين الأموى والعباسى واهتدى رامى إلى النغمة الصحيحة وإلى معين لا ينضب فى هذا التراث، وتحققت أمنية طلعت حرب رائد الاقتصاد المصرى الذى كان يعتبرها فنانة القمة وواحدة ممن يشكلون الشخصية القومية المصرية التى دعا إليها وحرص على تنميتها، والذى كان يود لها أن تمثل وتغنى فى فيلم ينتجه استوديو مصر، ومن العجيب أن الفيلم الوحيد الذى لم يتم فى حياة سيدة الغناء العربى هو فيلم «ثومة» الذى كان سيخرجه يوسف شاهين ورغم أنها وافقت على الظهور فيه فى الحقبة الأخيرة من حياتها، واحتفظت بحق الموافقة على الممثلة الشابة التى ستمثل صباها وشبابها بعد أن يختارها يوسف شاهين، إلا أن هذا الفيلم «ثومة» لم يتم .. وإن كانت أم كلثوم قد وقفت على الشاشة ممثلة ومطربة فى سينما خاصة بها وحدها هى سينما أم كلثوم .
* اعملوا لمصر
لقد عاشت أم كلثوم فى مناخ ساعد على نمو موهبتها فقد امتدت حياتها عبر ثورتين، عبر انتفاضتين لبناء الشخصية المصرية والقومية وتغذية جذورنا العربية، وكانت وجدان مصر ككل العبقريات المصرية التى عاشت فى زمانها وصاحبت عصرها فقد فتحت عيونها على ثورة 1919، فى مناخ الثورة المصرية الذى تربى فيه سيد درويش وتوفيق الحكيم وطه حسين، وكتب حسين هيكل أولى قصصه المصرية «زينب» وسعى طلعت حرب لإقامة بنك مصر، وأفرزت الثورة عبقريات مصرية وقادة رفعوا شعار : اعملوا لمصر.. أم كلثوم التى تربت فى هذا المناخ، وعاشت ثورة مصر عام 1952، وغنت للثورة ولجمال عبد الناصر هى الصوت القادر الذى قاد الناس للتغلب على جراح نكسة 1967، فلم تمض شهور قليلة على النكسة إلا وأعلنت أم كلثوم أنها ستغنى لمصر وتجمع التبرعات بغنائها لصالح المجهود الحربى لإعادة تسليح جيش مصر، وبدأت مجموعة من الرحلات على نطاق العالم العربى، تقيم الحفلات وتتلقى التبرعات وكل ريع حفلاتها وهبته لمصر، وارتحلت بحفلاتها الغنائية إلى الكويت والإمارات والسودان وليبيا والمغرب ثم توجت هذا كله بالغناء فى باريس على مسرح الأوليمبيا فى عاصمة النور.
ويؤرخ عبد النور خليل لتلك الرحلات فى كتابه فيقول :
«كنت أعمل مع الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، وكان رئيساً لمجلس إدارة دار الهلال ورئيساً للتحرير وتلقانى ومعى طموحاتى فى تغطية رحلة أم كلثوم إلى باريس عاصمة النور، وطلبت منه أن يتركنى أتعامل مع الوكالات العالمية العاملة فى مصر، واتفق معهم على أن تخصص كل وكالة مصورا يعمل معنا فقط ليتابع أم كلثوم فى باريس وينقلون لنا حفلها الغنائى على مسرح أوليمبيا فى منتصف نوفمبر 1967، ولم يتردد أحمد بهاء الدين رغم التكاليف الباهظة .
وعدت أصدر عدداً خاصاً للمرة الثانية موضوعه العظيمة أم كلثوم «الكواكب 21 نوفمبر 1967» وزدت عليه بتحقيق خاص فى عشر صفحات من «المصور» 24 نوفمبر 1967 عن أم كلثوم فى حفلها على مسرح الأوليمبيا.
أما العدد الخاص الأول فقد صدر عن أم كلثوم بعد عودتها من رحلة العلاج الشهيرة فى أمريكا .
فيقول كاتبنا : «كنت قد تقدمت إلى أسرة تحرير مجلة «الكواكب» باقتراح أن نستقبلها عند العودة وتكامل الشفاء بإصدار عدد ذهبى كل صفحة وكل سطر منه عن أم كلثوم، وكانت تلك هى المرة الأولى فى تاريخ الصحافة الفنية العربية أن تخصص مجلة صفحات عدد كامل عن فنان وهو عدد مجلة «الكواكب» بتاريخ 6 نوفمبر عام 1962، كنت أجيب فى افتتاحية هذا العدد عن سؤال : لماذا أم كلثوم ؟»
هذا هو السؤال الذى يسعى دائما ليجلو لنا سر أم كلثوم .. السؤال الذى سنتبادله جيلا بعد جيل !
أما هى فسوف «ينبثق صوتها كما تنبثق الزهرة تحت الندى، وكأن الأوتار الصادحة لم تكف عن العزف : «فضلت أعيش فى قلوب الناس وكل عاشق قلبى معاه».
تم تحرير الموضوع بواسطة :rose بتاريخ:23-11-2012 03:05 مساءً
توقيع :rose
Living in the past causes you to miss out on the present. Life is too short to let it pass you by.
ربما يعجبك هذا أيضا


look/images/icons/i1.gif سر ام كلثوم و حنجرتها الفريدة
  23-11-2012 02:52 مساءً   [1]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 8
المشاركات : 3082
الدولة : Egypt
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 929
التعليم : ابتدائي
الهواية : شعر
[class=Apple-style-span]صوتها جمع أعلى درجات الاختلاط بين الأنوثة والذكورة فكان سبباً رئيسياً في تفردها[/class]
<font class="Apple-style-span">oum-kalsoum-503-14600-7186204
في مقابلة إذاعية مع الموسيقار محمد عبد الوهاب، تشعب الحديث إلى تقييم عبد الوهاب لصوت أم كلثوم، فقال أنه صوت نادر كان يتمتع بمزايا عديدة، تكفي كل مزية منها لتجعل من صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف إذا اجتمعت هذه المزايا لصوت واحد.

هذا الرأي الذي صدر عن مرجع هام في الموضوع، كان بينه وبين أم كلثوم تاريخ طويل من المنافسة، كما أنه صادر عن خبير وعن صاحب تجربة في التلحين لأم كلثوم والتعامل مع صوتها عبر عشرة ألحان تضمنت كل ألوان الغناء العربي، نستكمله بتحليل مفصل بدقة علمية موضوعية في هذا المجال، نستقيه من مقالين مخصصين لتحليل حنجرة أم كلثوم علميا، الأول للناقد الكبير كمال النجمي في كتابه «الغناء المصري»، والثاني لسليم سحّاب، المتخصص في قيادة الكورال الأكاديمي، وقيادة الأوركسترا السمفونية والأوبرا من كونسرفاتوار تشايكوفسكي بموسكو.

يقول كمال النجمي في تحليل كتبه في نهاية العام 1967 أو مطلع العام 1968:

«إن صوتها ينتمي إلى القسمين الثاني والثالث من أقسام الأصوات النسائية الثلاثة، وهما الكونترالتو والميتسو سوبرانو، ويسمي المجمع اللغوي هذين القسمين في مصطلحاته العربية «الرنان» و»الندى الثاني».

أما القسم الأول من الأصوات النسائية وهو «السوبرانو»، واسمه المجمعي «الندى الأول»، فأن النقاد الموسيقيين يرون أن صوت أم كلثوم كان يبلغه في العشرينيات، عندما كانت في مرحلة الدربة والتكوين، فلما اكتمل تدريبا وتكوينا استقر على القسمين الثاني والثالث، وهما أغلظ نبرات من القسم الأول وقد اتفق الموسيقيون المصريون، منذ سمعوا أم كلثوم، على أن صوتها يمتد على مساحة ديوانين (المحرر: الديوان هو «الأوكتاف» في المصطلحات الأوروبية)، فبلغ ستة عشر مقاما تقريبا، وهي مساحة واسعة غنية بألوان الجمال الصوتي الباعث على الطرب والدهشة.

ليس معنى ذلك أن هذا هو أقصى ما بلغه صوت مطربة من المطربات في عصر أم كلثوم أو قبل عصرها. فقد حدثنا الموسيقيون عن أصوات واسعة المساحة جدا، منها مثلا صوت مطربة القرن التاسع عشر ألمظ، ومنها كذلك – إلى حد ما- صوت منيرة المهدية مطربة الربع الأول من القرن العشرين (المحرر: ومنها أيضا صوت فتحية أحمد).

ولكن المساحة التي يشغلها صوت أم كلثوم هي مساحة من الأزهار والأثمار والمياه الصافية والأنسام والظلال، بعكس المساحة التي تشغلها أو كانت تشغلها بعض الأصوات الضخمة، فهي مساحة من الرمال أو المياه الضحلة والنباتات العقيمة.

وقد أكد لي بعض مخضرمي الموسيقيين أنه سمع أم كلثوم في العشرينات تؤدي جواب الجواب في نغمة السيكا. معنى ذلك أن صوت أم كلثوم كان يبلغ حينذاك سبعة عشر مقاما سليما.

(..) إذا تجاوزنا أقسام الصوت ومقاماته وجواباته إلى ذبذباته والنسبة بين مقاماته، ورخامته وصلصلته ونعومته وجزالته وجهارته وخفوته، رأينا إعجازا فذا، كأنه صوت مرسوم بطريقة هندسية يبهر من براها ويسمعها في وقت واحد.

وقد أحسن كمال النجمي في تجاوز حساب المساحات في صوت أم كلثوم، لأن هذه المساحات ليست سوى عنصر من عناصر تكوين الصوت، وقد تكون هذه المساحات (مهما اتسعت) في حالات معينة مفتقرة إلى الجمال، كما أن صاحبها يمكن أن يكون مفتقرا إلى موهبة حسن إدارة هذه المساحات واستخدامها بجمال وذوق وإحساس مرهف.

ننتقل بعد ذلك إلى الرأي التحليلي لسليم سحّاب، الذي يعتمد بعض ما اعتمده كمال النجمي من معايير، ولكنه يضيف إليها مقارنة بأصوات مغنيات الأوبرا الشهيرات في الغرب، علما بأن دراسته الأكاديمية أتاحت له الاستماع (في سبعينيات القرن العشرين) إلى أصوات جميع مغني ومغنيات الأوبرا في العالم منذ ولادة الاسطوانة وحتى ذلك التاريخ، وتحليل هذه الأصوات على يد كبار الأساتذة الروس.

يعيد سليم سحّاب عظمة حنجرة أم كلثوم وتميزها الاستثنائي إلى ستة عوامل، نعرضها فيما بقي بشيء من الاختصار:

المساحة الصوتية: بالرغم من أن مساحة صوت أم كلثوم تعتبر واسعة (ديوانان كاملان) إلا أن المهم في صوتها ليست مساحته، بل موضع هذه المساحة بين الأصوات البشرية. فمنذ العشرينات لغاية وفاتها، كانت مساحة صوت أم كلثوم تتداخل مع مساحة الأصوات الرجالية. وإذا أخذنا مثالا على ذلك دور زكريا أحمد “مين اللي قال” عند كلمات “راح العذول ما لوش أثر” (الثلاثينيات) أو أغنية يا ظالمني لرياض السنباطي (تسجيل بيروت في منتصف الخمسينيات) وعند كلمة “وهجرانك” في عبارة “بكاس صدك وهجرانك”، نرى أنها تصل بصوتها إلى مقام يقع في وسط مساحة صوت الباريتون الرجالي “ري بيمول” (..) وإذا عرفنا أن الباريتون هو الصوت الرجالي المتوسط بين فئات الأصوات الرجالية الثلاث (الفئة الأولى الباص، وهو أغلظ فئة من ناحية الصوت، والفئة الثالثة هي التينور وفيها المقامات الأعلى من الصوت الرجالي، وفي الوسط فئة الباريتون المذكورة) نعرف مدى عرض مساحة صوت أم كلثوم، ومدى تداخله مع فئة الأصوات الرجالية.

التملك من الصوت: الأهم من مساحة صوتها هو التملك المطلق بهذه المساحة، فأم كلثوم بتملكها العجيب هذا، كانت تؤدي جملا غنائية في غابة الصعوبة التقنية وإلى جانب هذا فان الزخرفات والتحليات الغنائية التي كانت تؤديها، كانت تصل حد الإعجاز. ولنتذكر في أغنية يا ظالمني (في التسجيل المذكور)، عند كلمات “عشان تعطف علي يوم” كيف تزخرف كلمة “عشان” عند الوصول بالارتجال إلى نغمة الهزام. هذه الزخرفات صعبة حتى على آلة طيعة مثل الكمان، فكيف بالصوت البشري.


القوة الصوتية: إن القوة الصوتية الموجودة في غناء أم كلثوم، أصبحت منقرضة في عصر الميكروفون. ويكفي أن نقول بأن الغناء المعتمد على التقنية العلمية الكاملة للغناء يعتمد على استخدام الحجاب الحاجز ( ديافراغم) في ضغط الهواء الصاعد، بدلا من الضغط المباشر على الحنجرة، الذي يشكل ضغطا على الحبال الصوتية بقدر بضغطين جويين ونصف. وعندما نعلم أن غناء أم كلثوم يعتمد أساسا على الحنجرة، نستطيع أن نقدر كمية الضغط الهائلة التي كانت تتحملها احبال حنجرتها في أثناء الغناء. وأذكر حين حضرت حفلها في بيسين عالية (التي غنت فيها حيرت قلبي معاك للسنباطي، في العام 1962)، أذكر أن الميكروفون كان بعيدا عنها حوالي متر، وأعلى منها بنصف متر. وأذكر أيضا أنها حين كانت تغني على الطبقات العليا، كانت ترجع إلى الوراء حوالي المتر الإضافي.

المقدرة: كانت أم كلثوم تغني حوالي أربع ساعات (المحرر: في بعض حفلاتها، لا كلها). فإذا عرفنا أن الساعات الأربع هي مدة أطول الأوبرات في تاريخ الغناء الأوروبي، وأن أطول دور غنائي كامل في هذه الأوبرات لا يتعدى الأربعين دقيقة على مدى الساعات الأربع، وأن أطول مرحلة منفردة لا تتعدى 15 دقيقة، نستطيع أن ندرك مدى هذه الظاهرة الصوتية، التي كانت تغني أربع ساعات، موزعة على مدى ست ساعات.

الاستمرار في الغناء

الاستمرار في الغناء: إلى كل هذا نضيف أن أم كلثوم غنت على مدى ستين سنة متواصلة (المحرر: من 1913 حتى 1973، وربما بدأت الغناء قبل ذلك بسنوات). إن هذه الاستمرارية هي الأولى في تاريخ الغناء في العالم، إذ لغاية اليوم، لا يوجد في تاريخ الغناء حتى إشارة (ولو من بعيد) إلى مغن (أو مغنية) استمر في الغناء هذه المدة الطويلة. فالغناء الأوروبي لم يعرف مغنيا (أو مغنية) استمر في الغناء أكثر من أربعين عاما.

النظافة الصوتية: نصل الآن إلى صفة معجزة حقا في صوت أم كلثوم: فقد أقيمت في القاهرة سنة 1975 (المحرر: أقيمت التجربة في العام 1974، وقدمت إذاعة صوت العرب عرضا لها في 5-1-1975) (5) تجربة علمية على آلات الكترونية لقياس مدى النظافة والنشاز في الأصوات الغنائية المصرية المعروفة وكانت النتيجة مذهلة. فبعد قياس الكثير من أغنياتها (منذ بدايتها حتى اعتزالها) تبين أن نسبة “نشاز” صوت أم كلوم لا يتعدى في أقصى حالاته نسبة واحد في الألف من البعد الطنيني الكامل.

فإذا عرفنا أن أقصى ما يمكن أن تميزه الأذن البشرية هو “واحد على تسعة” من الطنين الكامل، أدركنا أن الدقة في حنجرة أم كلثوم تصل حد الإعجاز البشري بالمعنى العلمي للكلمة.

وإذا كان هذان التحليلان يلقيان أضواء كاشفة على الآلة الأساسية في غناء أم كلثوم: “حنجرتها”، فأن من الضرورة بمكان استكمال وصف بقية الآلات التي تكوّن الجهاز الصوتي الضخم لدى أم كلثوم. فما من شك- أولا- أن حبال أوتارها الصوتية كانت ذات تكوين قوي، بدليل تحملها الغناء لساعات مطولة تفوق الوقت العادي للغناء عند سائر المغنين في الشرق والغرب، وبدليل امتداد جهد أم كلثوم الغنائي (كما أسلفنا) على ستين عاما ونيف. وقد روى ابن الدكتور حسن الحفناوي (زوج أم كلثوم) أنه رافقها في إحدى رحلاتها العلاجية للخارج، واستمع إلى دهشة الأطباء من الحجم الاستثنائي لحنجرة أم كلثوم، وتركيب أوتار هذه الحنجرة. غير أني انقل هذه الرواية بشيء من التحفظ، لأني لست واثقا من علاقة التكوين الفزيولوجي الاستثنائي للحنجرة، بالأداء الاستثنائي لهذه الحنجرة، مع ترجيحي المنطقي لوجود مثل هذه العلاقة، خاصة وأن الممارسة العملية لأم كلثوم على مدى حياتها ترجيح هذا الاستنتاج.

ولا بد أيضا من الإشارة إلى ضخامة وقوة الجهاز التنفسي لدى أم كلثوم المؤلف من الحجاب الحاجز (دافع الهواء) والرئتين (خزان الهواء)، فكثير من الجمل الطويلة الموزعة على مقاطع أغاني أم كلثوم في كل مراحلها، ومن الجمل المتطرفة في ارتفاعها إلى جوابات عالية، والمتطرفة في انخفاضها إلى قرارات منخفضة، تحتاج إلى كمية هائلة من الهواء، وإلى خبرة وتمرس في حسن استخدام هذا الهواء (شهيقا وزفيرا) حتى يحصل المغني والمستمع على النتيجة المدهشة التي كانت تحصل عليها أم كلثوم ومستمعوها، والتي تجمع بين الحد الأعلى المتاح من الدقة، والحد الأعلى من المتعة الفنية.

نكتفي بهذا القدر من التحليل العلمي لمختلف عناصر الأدوات الغنائية لأم كلثوم، وننتقل إلى الجانب الأهم، الجانب الجمالي في أدائها، الذي ما كان يمكن له أن يتحقق إلا بقدرات في الأداء، تستخرج من تلك الآلة الغنائية، أقصى ما يمكن من فنون الغناء الشيق الممتع، الذي يستولي على الألباب، ويرفع نشوة المستمع إلى ذرى عالية. فإذا انطلقنا من المواصفات العلمية لصوت أم كلثوم بمختلف أدواته، إلى رحاب المواصفات الجمالية لذلك الصوت، ولأداء أم كلثوم الغنائي، فإننا سنتوقف عند أكثر من عنصر من عناصر ذلك الأداء، مستكشفين كل عنصر منها، عبر المراحل الطويلة والمتحولة في فن أم كلثوم: الأنوثة والذكورة والكلاسيكية

إذا كان هنالك إجماع على أن صوت أم كلثوم كان أعظم الأصوات النسائية العربية في القرن العشرين وأقدرها، فإننا عندما نطرح سؤالا آخر عن أكثر الأصوات النسائية العربية أنوثة ورقة، نخرج من الإجماع إلى مجموعة من الآراء، تتفق على استبعاد صوت أم كلثوم من طليعة هذا التصنيف، ولكنها تختلف في طرح عدد من الأسماء، يأتي في طليعتها صوت أسمهان ثم صوت ليلى مراد، ثم تتوزع الآراء بعد ذلك على أصوات أخرى مثل نور الهدى وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وفيروز وأحلام (صاحبة «يا عطارين دلوني»;). والحقيقة أن هذه المسألة مطروقة دائما في الحوارات الشفهية بين النقاد والمتخصصين، وحتى بين المثقفين عامة، غير أنها نادرة في مجال النقد المكتوب، ربما لأن من يحملون رأيا ما في هذه المسألة، يتحرجون من أن يكون مثل هذا الحوار انتقاصا من قيمة صوت أم كلثوم. غير أن مثل هذا التحرج لا مجال له في أي تحليل موضوعي

فلو نحن عدنا إلى تفاصيل التحليل الذي أوردناه أعلاه نقلا عن سليم سحّاب، لفت نظرنا الملاحظة العلمية التي تشير إلى أن أم كلثوم وصلت في كلمة «وهجرانك» (من عبارة بكاس صدك وهجرانك، في تسجيل مسرح قصر الأونيسكو ببيروت لأغنية «يا ظالمني»، في منتصف الخمسينيات) وصلت إلى درجة منخفضة جدا، توازي نصف المساحة بين الدرجة الأشد ارتفاعا والدرجة الأشد انخفاضا في فئة صوت الباريتون الرجالي. معنى هذا الكلام، بلغة العلم، أن هذه الدرجة المنخفضة لم تكن بعيدة عن الدرجة الأعلى في فئة صوت «الباص» الرجالي. وهذه واقعة استثنائية عندما يكون الحديث عن صوت نسائي، لا بد من التوقف عندها، واستجلاء أمرها.

خصائص الصوت

الملاحظة الأولى التي تستدعيها هذه الحقيقة في درجات صوت أم كلثوم، أن هذا الصوت النسائي كان يمتلك مساحات منخفضة يندر أن تتوفر لأي صوت نسائي آخر، الأمر الذي يعتبر غنى فاحشا في مساحات هذا الصوت، أحسنت أم كلثوم استخدامه، ليس فقط في ذلك التسجيل البيروتي لأغنية يا ظالمني (وأن كان بالإمكان اعتبار هذا التسجيل نموذجيا) ولكن في عدد آخر من أغنياتها، مما يضاعف المقدرة التأثيرية لصوت أم كلثوم على المستمع، لاتساع مساحة جماليات الأداء الصوتي الناتج عن تلك الطبقات المنخفضة النادرة في أصوات النساء.

ولنتذكر على سبيل المقارنة بأن نقطة الضعف الوحيدة في صوت أسمهان العظيم كان افتقاره إلى اتساع المساحات المنخفضة في صوتها، ولعل أفصح الأمثلة العملية على ذلك القفلات المنخفضة الضعيفة في أغنيتها الرائعة (من ألحان فريد الأطرش) «رجعتلك يا حبيبي».

إذن، من المؤكد أن هذا الانخفاض الاستثنائي في القرارات الصوتية لحنجرة أم كلثوم، كان مصدر غنى مؤكد لصوتها ولأدائها الغنائي، ولكن من المؤكد أيضا أن ذلك الغنى الاستثنائي في الدرجات المنخفضة للصوت والواضحة الغلظة، كان على حساب الطبيعة الأنثوية لهذا الصوت.

ومن الأهمية في هذا الصدد ملاحظة هذه المسألة في صوت أم كلثوم عندما تتحدث، وليس فقط عندما تغني. حتى أن الموسيقار كمال الطويل يروي في أكثر من مناسبة حميمة (وفي حديث مباشر لي في بيروت) أنه في كل مرة كان يتلقى مكالمة هاتفية من أم كلثوم، كان متلقي هذه المكالمة (كمال الطويل أو أي من أفراد أسرته) يعتقد للوهلة الأولى أن المتحدث على الطرف الآخر من الهاتف هو رجل. ويبتسم كمال الطويل عند رواية هذه الواقعة، ويؤكد أن أم كلثوم كانت تكتم غيظها من الخلط بين صوتها في الهاتف وصوت الرجال، ولكنها كان تعالج المسألة دائما بخفة ظلها وسخريتها المعروفة.

ولا ندري إذا كان هذا الأمر مجرد حالة فيزيولوجية محضة، أم أن إخفاء الأنوثة في شكل أم كلثوم لسنوات طويلة في العقدين الأولين من عمرها بارتداء الملابس الرجالية (في مجتمع محافظ يعتبر غناء الأنثى عورة لا بد من إخفائها) قد أوجد مفعولا نفسيا كان له أثر ما على حنجرة أم كلثوم.

على أي حال، وبعد أن قلبنا هذه المسألة على مختلف وجوهها، نعود إلى الخلاصة العامة التي يمكن أن نوجزها بأنه إذا لم يكن صوت أم كلثوم صارخ الأنوثة (كما في الأصوات النسائية التي استعرضناها أعلاه)، فانه لم يكن حتما يفتقر إلى القدرة على التعبيرات الناعمة في الأداء، عندما يتطلب ذلك المعنى أو اللحن. وتسجيلات أم كلثوم مليئة بأمثلة لا حصر لها في هذا المجال، غير أنها مليئة أيضا بنماذج كانت أم كلثوم تبدو فيها شديدة الاعتداد بالقوة الخارقة في صوتها، فنضغط على مكامن هذه القوة بما يتجاوز الخط الأحمر.

إن اختلاط ملامح الأنوثة والذكورة في صوت ذي مساحات استثنائية مثل صوت أم كلثوم، قد رفعه إلى مستوى من الكلاسيكية المحايدة، والمرتفعة فوق مثل هذه التصنيفات الفيزيولوجية، ولعل ذلك كان أحد أسباب التفرد الذي كان يتميز به صوت أم كلثوم، عن كل مطربات القرن العشرين، حتى صاحبات الأصوات الممتازة، فهو بين كل هذه الأصوات، كان الأعظم والأقدر.

الحـــدة والليـــونـــة

إن استماعا متأنيا يستعرض كل ما سجلته أم كلثوم بصوتها، منذ العشرينيات وحتى السبعينيات، يجعلنا نلمس لمس اليد أن صوت أم كلثوم قد مر بمراحل عديدة، قبل أن يصل إلى ذروته الذهبية، في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. وإذا كنا في صفحات سابقة قد أفضنا بعض الشيء في وصف التحولات التي طرأت على صوت أم كلثوم في العقد الأخير من رحلتها الفنية، فلاحظنا التراجع المتدرج للطبقات العليا في صوتها، والاختفاء المتدرج للمساحات التي تتميز باللمعان والبريق، فحري بنا أن نتوقف هنا عند العقد الأول من مسيرتها الفنية، أي مرحلة ما قبل ظهور رياض السنباطي في حياتها الفنية.

لقد تميز صوت أم كلثوم في النصف الأول من هذا العقد (عندما كانت تغني قصائد الشيخ أبو العلا محمد الأولى وألحان النجريدي وأوائل ألحان محمد القصبجي) بحدة جارحة، وعلى شيء من الخشونة، أو من انعدام الليونة. ويبدو أن ذلك يعود لأكثر من سبب:

الطبقات العليا

السبب الفيزيولوجي البحت الذي يجعل الحدة، خاصة في الطبقات الصوتية المرتفعة، تطبع الصوت بطابعها في العقدين الثاني والثالث من العمر.

أسلوب الغناء الذي كان ما يزال سائدا في الربع الأول من القرن العشرين، كامتداد طبيعي لأسلوب القرن التاسع عشر، والذي كان يعتبر استعراض الطبقات الصوتية ذروة التميز الفني في الغناء. وبما أن الله قد حبا أم كلثوم بمساحات صوتية واسعة، كانت الطبقات العليا هي الغالبة عليها في سنوات عمرها الأولى، فقد كانت قلة خبرة أم كلثوم، واندفاعها وراء الرغبة في إثبات أهمية مساحاتها الصوتية في مواجهة كل الأصوات النسائية التي تنافسها، سببا إضافيا في إطلاق العنان لتلك الطبقات العليا الحادة، من غير ضوابط أو كوابح.

لا شك بأن ملحني أم كلثوم الأوائل قد افتتنوا، كل على طريقته ووفقا لأسلوبه التلحيني، بالمقدرة الصوتية الاستثنائية لأم كلثوم، المتمثلة في تلك السنوات في طبقاتها الصوتية العليا، فأخذوا يطلقون العنان لتلك الطبقات في ألحانهم، مما أوجد حالة لحنية- غنائية متكاملة تدفع أم كلثوم (ذات الخبرة المحدودة في الغناء حتى ذلك الوقت) إلى أن تمارس بلا حدود وبلا ضوابط افتتانها بالطبقات العليا لصوتها، مما كان يغلف كل ذلك بطابع من الحدة المعدنية، يلاحظها المستمع بكل وضوح (على سبيل المثال لا الحصر) في لحني النجريدي “يا كراوان والنبي سلم” و”مالي فتنت”، وفي لحن القصبجي المبكر “ان حالي في هواها عجب”. أما قصائد أبو العلا محمد وعبده الحامولي، فمع أنها تنتمي إلى بواكير أم كلثوم، ولكن تسجيلها على اسطوانات تم على سنوات متباعدة، في أثناء حياة أبو العلا محمد (مات في العام 1927)، وحتى بعد رحيله بسنوات. لذلك لا يمكن استخدامها في تحليل هذه الظاهرة.

غير أن بداية ألحان زكريا أحمد لأم كلثوم، في العام 1931 وما بعده، شهدت بداية تراجع طابع الحدة في صوت أم كلثوم وفي أدائها، وإن كان بشكل متدرج، بدليل أن تلك الحدة ظلت تعاود ظهورها في المقاطع اللحنية التي ترتفع إلى مساحات صوتية عالية، مثل لحني القصبجي الرائعين “انت فاكراني” و”ليه تلاوعيني”. ولعل منتصف الثلاثينيات كانت المحطة الأبرز في التراجع الجدي لمعالم الحدة، الذي اكتمل مع الأربعينيات، حيث اكتملت كما يبدو عملية التهذيب والتشذيب الذي تعرضت له حنجرة أم كلثوم وأسلوبها في الأداء، وهي عملية من المؤكد أنها نمت بفعل عوامل عديدة، منها نضج تجارب أم كلثوم الصوتية، وانتهاء فترة افتتانها (في مطلع شبابها) بطبقاتها العليا، ومنها نضج الملحنين الذين يبدعون لها ما تغني، الذين لا بد أن يكون طول التعامل قد دفعهم إلى إعمال خيالهم الفني في كل طبقات صوت أم كلثوم (لا الطبقات العليا وحدها) وهي طبقات كان السن والتجربة يزيدانها نضجا. ولعل من تلك العوامل، التأثر غير المباشر (وربما المباشر) بأسلوب محمد عبد الوهاب الذي كان خياله كملحن، وذوقه المرهف ورغبته التجديدية الجامحة في أسلوب الغناء (وليس في التلحين فقط) قد هذب نواتىء الحدة في صوته وأدائه ودور زواياها الحادة منذ فترة مبكرة نسبيا، فابتدع ذلك الأسلوب الغنائي الفذ، الذي يطغى فيه الإحساس والحساسية على استعراض العضلات الصوتية، مما دفع مطربا في وزن وديع الصافي إلى التصريح مرارا، في أحاديث إذاعية وتلفزيونية مكررة: “لقد تعلمنا الذوق الغنائي من عبد الوهاب”.

فإذا عدنا إلى أم كلثوم فأن ما يدفعنا إلى القول أن عقدي الأربعينيات والخمسينيات (مع الجزء الأخير من الثلاثينيات) شكلا المرحلة الذهبية لحنجرتها ولأسلوبها في الأداء، فلأن المعادلة الذهبية كانت على أتم اكتمالها في هذين العقدين:

اكتمال المساحات الصوتية الاستثنائية بكامل طبقاتها العليا والدنيا.

اكتمال التجربة والنضج والتوازن بين قوة الصوت وحلاوته من جهة، والتحكم بأساليب التعبير المتنوعة والملونة بشتى الأحاسيس، وانصرام عهد الشباب الأول المفتون بقوة الصوت ومساحاته العليا فقط.

ومن المؤكد أن رياض السنباطي كان المستفيد الأول بين ملحني أم كلثوم الثلاثة الرئيسيين في تلك المرحلة الذهبية، لأنه كان خلالها قد أنضج صيغة اللون الكلثومي الذي تميز به، سواء في قصائده العاطفية والدينية الشامخة، أو في مونولوجاته المسرحية المطولة، ولأنه أنجز معظم إنتاجه الكلثومي في إطار هذه المرحلة الذهبية.

إن من يستمع إلى رباعيات الخيام وغلبت أصالح في روحي وجددت حبك ليه ودليلي احتار (على سبيل المثال لا الحصر) بوسعه أن يضع يده بدقة على ما نحاول لفت النظر إليه من تراث أم كلثوم. أما المستفيد الثاني فكان زكريا أحمد، لأنه أنجز كل مونولوجاته المسرحية المطولة في إطار هذه المرحلة (مثل الأمل والآهات وأهل الهوى وأنا في انتظارك) ولأنه أطلق صيحته الأخيرة الرائعة “الهوى غلاب” قبل أن تبدأ أم كلثوم رحلة الخروج المتدرج من المرحلة الذهبية. ولعل من حظنا كمستمعين، وحظ تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة، أن يكون القصبجي قد أتيح له (قبل القطيعة المأساوية) أن يلحن لأم كلثوم في إطار المرحلة الذهبية رائعته التاريخية (بكل معنى الكلمة) “رق الحب


تم تحرير المشاركة بواسطة :rose بتاريخ:23-11-2012 02:56 مساءً

توقيع :rose
Living in the past causes you to miss out on the present. Life is too short to let it pass you by.


look/images/icons/i1.gif سر ام كلثوم و حنجرتها الفريدة
  23-11-2012 02:59 مساءً   [2]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 8
المشاركات : 3082
الدولة : Egypt
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 929
التعليم : ابتدائي
الهواية : شعر
Kulthum



أما الآخرون فقد تربوا على صوتها من خلال المذياع

أعتقد أن الخلاصة الأهم في فن أم كلثوم، ستبقى رهنا بمرور مزيد من السنوات، وولادة أجيال جديدة، يسمح لها البعد الزمني بغربلة أكثر موضوعية، ومقارنة أكثر موضوعية بين مختلف مراحل فن أم كلثوم. أما وأن الغربلة التاريخية ما زالت تتم – حتى كتابة هذه السطور- من خلال الجيل أو الأجيال التي تربت ذائقتها الفنية، وتكونت ذاكرتها الفنية في مرحلة الحفلات الشهرية الحية لأم كلثوم، ذات السطوة الفنية والوجدانية الحاضرة في ذائقة الأمة العربية منذ بداية أربعينيات القرن العشرين، حتى يومنا هذا، مع امتداد في الأثر سيشمل سنوات قادمة لا يمكن تحديدها منذ الآن، بفضل الاحتفاظ بهذا التراث في تسجيلات صوتية وبصرية. وإلى أن تتم هذه الغربلة التاريخية، ويأتي زمانها، فلا شك بأن حضور أم كلثوم في الذاكرة العربية سيظل مجسدا بتسجيلات حفلاتها الحية. أما المرحلة البالغة الخصوبة، والعالية القيمة الفنية، التي أنجزتها أم كلثوم وملحنوها الأوائل بين 1927 و 1937 بشكل خاص، فإنها إما انزوت إلى أجل غير مسمى على رفوف محفوظات الموسيقى العربية الرفيعة، بعيدا عن الوجدان الحي للأجيال الجديدة من المستمعين، أو أنها تراجعت (في أحسن أحوالها) إلى موقع جانبي (حتى لا أستخدم عبارة هامشي) في التقييم العام لمجمل حصيلة أم كلثوم الفنية العامة، لأن حرارة الأثر الطويل لحفلات أم كلثوم الشهرية الحية، ما زالت هي صاحبة الصدارة في وجدان المستمعين، بل وفي موازين النقد.

لا أقول هذا الكلام تقليلا من قيمة تراث أم كلثوم الذي صنعته حفلاتها الشهرية الحية، ولكني أحاول فقط لفت النظر إلى أن تراث أم كلثوم ينقسم فعلا إلى مرحلتين مختلفتي الأوصاف والمزايا: مرحلة الاسطوانات، ومرحلة الحفلات الحية. والمرحلة الثانية هي الطاغية إلى الآن، مما يستدعي في كل الأحوال إلقاء أضواء نقدية وتحليلية خاصة على فن الارتجال الغنائي والموسيقي، الذي كانت تمارسه أم كلثوم في حفلاتها الحية، بتبادل وتكامل عبقري بين أدائها الغنائي وعزف الفرقة الموسيقية المرافقة لها، وعلى رأسها نفر من عباقرة العزف على الآت منفردة في وسط الفرقة الموسيقية، ذلك أن فن الارتجال هذا يستحق وحده وقفات طويلة، ربما لن تستوفي حقها كاملا إلا بدراسات لاحقة، تبدأ بجمع كل تسجيلات حفلاتها الحية، وتعمد بعد ذلك إلى تحليل تفصيلي لها.

هذا الكلام يقودنا إلى مجموعة من الملاحظات التوضيحية:

من حيث المبدأ سبقت الإشارة في صفحات سابقة إلى أن أم كلثوم لم تحتكر فقط فضل إحياء الفلسفة الجمالية لغناء القرن التاسع عشر (وعصبها الأساسي الارتجال) في عز القرن العشرين، وإيجاد صلة وجدانية بين عرب القرن العشرين وهذه الفلسفة الجمالية الغنائية، ولكنها فعلت ذلك من خلال معادلة فذة وتاريخية (بكل معنى الكلمة)، لأنها أعادت إحياء تلك الفلسفة الجمالية الغنائية التراثية، بصبغة جديدة ومتطورة في الأداء الغنائي، وفي إطار لحني (وهذا هو الأهم) له كل مواصفات النهضة الموسيقية العربية في القرن العشرين، بمختلف مراحله، وعلى يد ملحنين يختلفون كثيرا في علاقتهم العملية بالتراث القادم من القرن التاسع عشر.

بعد هذه الملاحظة المبدئية الأساسية، لا بد لنا من ملاحظة ثانية، تشير إلى أن أي تقييم موضوعي للخلاصة الفنية لفن الارتجال عند أم كلثوم، لا بد من أن يأخذ في الاعتبار أن مستوى الإبداع الفني في الارتجال الغنائي لم يكن على سوية واحدة في جميع حفلات أم كلثوم، كما يعتقد المتيمون بهذا الفن، الذي يفقدون عند الاستماع إلى أي من نماذجه، أي حاسة نقدية. ذلك أن نسبة غير قليلة من حفلات أم كلثوم تعتمد على ارتجالات محدودة القيمة الفنية، كانت تقوم في أحيان غير قليلة على مجرد تلبية رغبة الجمهور في الإعادة والاستزادة، فتأتي الإعادة في مثل هذه الحالات شحيحة بفنون الارتجال الإبداعي، ولا تتجاوز سوى بعض التصرفات الغنائية المحدودة.

غير أن هذا النوع من الارتجال، كان يقابله في حفلات أم كلثوم، وعلى مدى عمرها الفني كله، نماذج من الارتجال الإبداعي العبقري، الذي يرتفع فيه خيال المغني إلى درجة التماهي والتكامل مع خيال الملحن، بل يصل إلى جو الإضافة الإبداعية لخيال الملحن.

ان هذا الموضوع يستحق دراسات منفصلة (كما أسلفنا)، تقوم على جمع كل تسجيلات حفلات أم كلثوم الحية، وإخضاعها للدراسة المعمقة، حتى يمكن فرز الحفلات التي كان فيها مزاج أم كلثوم الفني، ومزاج فرقتها الموسيقية في لحظات من التجلي الفني الرفيع الذي يستحق حتما إعادة عرضه بكل الوسائل التقنية المتطورة المتاحة على مسامع الأجيال العربية المتعاقبة، ومواكبته بتحليلات دراسية تستخلص منه كل كنوزه الإبداعية، فلا تبقى هذه الكنوز كالذهب المختلط بالنحاس، يتساوى فيه الارتجال الإبداعي العبقري، بالإعادة العادية التي قد تحمل تصرفات عادية، وقد لا تحمل. ويمكنني أن أختم هذه الملاحظة بأن تسجيلات أم كلثوم المفعمة بلحظات الارتجال الإبداعي الكبير، يمكن للمستمع المتمرس أن يستدل عليها إما في عزف الفرقة الموسيقية في مقدمة الأغنية، فيكشف عزفهم من بدايته عن لحظات تجاوب هائل في المزاج الرفيع (في تلك الليلة) بينهم وبين أم كلثوم، أو في العبارات الغنائية الأولى التي تنطق بها أم كلثوم (وربما الكلمة الأولى) التي تحمل منذ البداية كثافة خاصة في مزاج فني غير عادي غالبا ما يحكم تلك السهرة الغنائية من أولها إلى آخرها.

*لا بد في دراسة فن الارتجال عند أم كلثوم دراسة تفصيلية، من استقراء تلك العلاقة السحرية بينها وبين فرقتها الموسيقية من جهة، وبينها وبين الجمهور من جهة ثانية.

العلاقة مع الجمهور

أما بالنسبة للجمهور، فلا بد من استدراك نشير فيه إلى أن هذه العلاقة لم تكن مثالية في كل الأحوال. وربما يمكن القول هنا إلى أن جمهورها الأكثر ثباتا في علاقته بها، كان بلا شك جمهور القاهرة. وهذا أمر منطقي بل بديهي، لأن ما بينها وبين هذا الجمهور عشرة طويلة حية. أما بقية الجماهير العربية، التي تربت على صوت أم كلثوم من خلال المذياع، فقد تفاوتت علاقتها بها، في حفلاتها الحية في مختلف البلاد العربية. ويمكنني هنا أن أقارن على سبيل المثال، بين حفلتين قدر لي حضورهما شخصيا: الأولى في مسرح قصر الاونيسكو ببيروت، وكانت سهرة سنباطية كاملة (عودت عيني، هجرتك، أروح لمين)، كان الجمهور فيها يذكر تماما في تقاليد الاستماع وآدابه ومزاجه بجمهور القاهرة، حتى أنها أفردت في المجال لبعض التقاسيم المنفردة (مع أروح لمين)، وقدمت ضروبا رفيعة من الارتجال الإبداعي في عودت عيني. اما حفلة بيسين عاليه، التي أنشدت في وصلتها الثالثة “الهوى غلاب”، فقد كانت غالبية الجمهور فيها من النوع الاستعراضي الصاخب، الذي ينشغل في كل دقيقة بإظهار نشوته بطريقة سطحية صاخبة، بدل استغراقه في عملية استماع حقيقية. وأذكر تماما، أن ردة فعل أم كلثوم كانت من قماشة تذوق ذلك الجمهور، فاختصرت الأغنية في عشرين دقيقة، كأنها تسجلها على اسطوانة، وأدتها بكل جفاف وبرود، من بدايتها إلى نهايتها.

طبعا، النسبة الغالبة من تسجيلات الحفلات الحية لأم كلثوم، تشمل النوعية الأولى من الجمهور الذي استشهدت به (جمهور مسرح الاونيسكو ببيروت). لذلك يلاحظ أن أم كلثوم كانت تتمتع بميزة ثابتة في علاقتها بجمهورها (إلا في الحالات الشاذة كما أشرت) هي ميزة “الكرم الغنائي الحاتمي”. فحتى في الحفلات التي يكون مزاج أم كلثوم فيها على غير ما يرام، فإنها تغني في الغالب دائما، وكأنها تبذل آخر قطرة من دمها ومن أعصابها ومن جهدها مع كل كلمة تقولها، ولا تبخل بالإعادة إذا ألح الجمهور في طلبها، حتى لو لم تكن هي راغبة في الإعادة ، وهذا ما يفرق (كما أشرت في الملاحظة السابقة) بين الإرتجالات الإبداعية، والاعادات التي تتم بطريقة شبه آلية، لمجرد مراعاة إلحاح الجمهور. حتى أن الناقد الكبير كمال النجمي قد أشار إلى هذه الظاهرة في أحد كتبه، وطالب الجمهور (في منتصف الستينيات) أن يكف عن “ابتزاز” أم كلثوم،ويكتفي منها بما تود هي تقدمه، فلا يضغط عليها في كل مقطع، لتعيد إنشاده مثنى وثلاثا ورباعا.

غير أن هذا ليس سوى وجه من وجوه حفلات أم كلثوم، أزعم أنه ليس الوجه الغالب، خاصة بالنسبة لحفلاتها القاهرية الرسمية، التي يمكن دراسة تسجيلاتها باعتبارها لونا فنيا قائما بذاته، له تقاليده الفنية على المسرح، كما في الصالة، في خط مواز لتقاليد عزف وسماع الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية في الصالات المخصصة لذلك.

وقد تعمدت هذه المقارنة لأغراض عديدة، أهمها كسر ذلك الحاجز النفسي لدى بعض المثقفين العرب، الذين لا يعتقدون بوجود تقاليد راقية في التأليف الموسيقي العربي وفي الغناء العربي وفي آداب السماع العربية، إلا إذا أصبح كل ذلك مطابقا، في شكله ومضمونه، لما هو سائد في الغرب. بينما تثبت حفلات أم كلثوم، بما يقدم على المسرح من عزف وغناء، وبما يسود القاعة من آداب الاستماع الراقي وتقاليده (كما أثبتت حفلات الموسيقى العربية التي كان يقدمها عبد الحليم نويره، والتي نقدمها الفرق التي نسجت على منواله فيما بعد)، هو مواز بل مطابق في روحه ومضمونه للمستوى الحضاري المحترم للموسيقى الأوروبية الكلاسيكية (عزفا وسماعا)، وإن اختلف عنه في بعض التفاصيل الشكلية، الناجمة عن فروق في المزاج والبيئة، لا عن فروق في المستوى الحضاري.

تقاليد الاستماع

وعلى سبيل المقارنة، فان من تقاليد سماع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية أن يسود صمت شامل في أثناء السماع، حتى يبدو السعال الاضطراري الذي قد يقطع ذلك الصمت، مستهجنا إذا تجاوز الحدود المعقولة. أما التصفيق، فانه ممنوع منعا باتا في ختام أي حركة من حركات العمل الفني الواحد (الذي يتراوح عادة بين ثلاث أو أربع حركات، أو خمس حركات في حالات نادرة)، فإذا انتهى العمل الفني، بجميع حركاته، فللجمهور ان يندفع في التصفيق والهتاف إلى ما شاء، سواء من ناحية رفع عقيرة الصوت، أو مد الهتاف والتصفيق إلى مدى زمني يراه الجمهور ضروريا للتعبير عن إعجابه. ويعتبر ارتفاع عقيرة الجمهور بالهتاف، ودوي تصفيقه ارتفاعا وحدة، وامتداد زمن الهتاف والتصفيق، المعيار الذي يقاس به نجاح الأداء الذي يتم على المسرح.

ويبدو عدم تمرس الجمهور العربي بهذه التقاليد الأوروبية، في حفلات الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، القليلة التي تقدم في أي عاصمة عربية، حيث يخالف قسم من الجمهور تلك التقاليد، لضعف ممارسته في هذا المجال، فيقاطع كل حركة (من العمل الواحد) بالتصفيق، ويستدعي بذلك استهجان القسم الأخر من الجمهور العربي، الذي تمرس بتلك التقاليد في حفلات سماع أوروبية.

أختصر فأقول أن شكل هذه التقاليد لم يكن مطبقا بحذافيره في حفلات أم كلثوم، ولكني أزعم أن روح تلك التقاليد كانت موجودة، مع اختلاف في التفاصيل(كما أسلفت)، ناجم عن اختلاف في طبيعة الفن الذي يقدم على المسرح، واختلاف البيئة الاجتماعية في حرارتها وبرودتها، لا عن اختلاف في المستوى الحضاري، كما أكدت سابقا. وليس علينا للتأكد من دقة هذه الملاحظة وموضوعيتها سوى أن نقارن الجو المحترم الذي كان يسود عملية السماع في حفلات أم كلثوم الحية، حتى عند ذروة اشتداد حالة الطرب والنشوة بين الجمهور( خاصة في القاهرة)، وبين حالة السماع السائدة حاليا لدى الجمهور العربي نفسه، الذي يستمع إلى نماذج الفن الموسيقي والغنائي الاستهلاكي، السائد في الربع الأخير من القرن العشرين.

أما ملامح صورة السماع في حفلات أم كلثوم، فيمكن وصفها كما يلي:

شك بأن الإصغاء الدقيق والمحترم كان هو السيد في تقاليد السماع في حفلات أم كلثوم (وهذا هو الأهم).

كان مسموحا بإطلاق همهمات هادئة مع أي جملة لحنية أو غنائية تحرك مكامن النشوة والطرب، ولكن من دون أن تعلو تلك الهمهمات إلى درجة تقطع على مطلقها، أو على مجاوريه، حالة الإصغاء الجاد والمعمق، بل أزعم أن بعض تلك الهمهمات الهادئة كانت تساعد على شحن أجواء الاستماع الجاد والمعمق بحرارة إنسانية رفيعة.

يجئ التصفيق عادة مع كل نقلة منطقية في الغناء أو الموسيقى، وليس من الضرورة انتظار القفلة النهائية للعمل الفني (كما في الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية)، ولا حتى قفلة كل حركة من العمل (أو كل مقطع وفقا للتعابير العربية)، إن كثيرا من المقاطع في عدد غير قليل من أغنيات أم كلثوم المسرحية، يحفل بقفلات فرعية في وسطه، بما لا يمكن معه أن يكتم الجمهور إبداء إعجابه حتى نهاية المقطع، أو نهاية الأغنية.

نظرا لطبيعة الارتجال الذي تمارسه أم كلثوم غناء، وتمارسه فرقتها الموسيقية عزفا، على اللحن الأساسي الواضح المعالم (والمدون بالنوتة الموسيقية)، فان ردود الفعل التفصيلية للجمهور، خاصة في حفلاتها القاهرية، التي ترتفع فيها عادة درجة الوقار والهدوء، تأتي أولا بأول، وفي مواقع بالغة الدقة عادة (أي في موقعها المناسب)، مما يلعب دورا بالغ الأهمية في تبادل حالة النشوة بين أم كلثوم والجمهور، في عملية ذهاب وإياب لا تتوقف، ويؤدي إلى حالات من تراكم الوجد والنشوة لدى أم كلثوم والجمهور، وإلى تراكم في عملية العطاء الفني التي تتم على المسرح، في غناء أم كلثوم وفي عزف فرقتها الموسيقية، وخاصة ما يقدمه عباقرة العزف المنفرد على العود والقانون والكمان والرق.

أن هذا الوصف هو خلاصة سماع مطول لمعظم حفلات أم كلثوم، إما حية عند إذاعتها، أو في تسجيلاتها. وما على أي مشكك في دقة هذه الملاحظات وموضوعيتها، أو من يرى فيها أي شبهة بمبالغة، سوى أن يستمع (على سبيل المثال لا الحصر طبعا) إلى مقطع “توعدني بسنين وأيام” في لحن زكريا أحمد “أنا في انتظارك” (في التسجيل المطبوع على اسطوانات أو أشرطة صوت القاهرة)، والمقطع الأخير من أغنية “أغار من نسمة الجنوب” (الذي يبدأ بعبارة يا ليتنا) من ألحان رياض السنباطي، حتى يلمس لمس اليد الملامح الكاملة لآداب التقاليد الراقية للسماع في حفلات أم كلثوم (وان اختلفت في التفاصيل عن آداب سماع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية)، كما يلمس لمس اليد الآفاق الواسعة للإبداع الفني الراقي (عزفا وغناء) التي تفجرها ممارسة الجمهور لآداب السماع هذه، لدى أم كلثوم وفرقتها الموسيقية، وهي آفاق تصل في كثير من الحفلات إلى ذرى عالية في الإبداع الارتجالي لدى أم كلثوم، وتجعلها في حالة من الكرم السخي في حرق أعصابها وإذابتها في كل حرف تنطق به، كما تفجر لدى العازفين (جماعيا وفرديا) إبداعات فنية لا حدود لها، لا بد من الحفاظ على تسجيلاتها كنماذج تاريخية لفن الموسيقى العربية في القرن العشرين، وإحاطتها بكل ما تستحقه من دراسة، لتحويلها إلى نماذج سمعية ودراسية، بين أيدي وآذان الأجيال العربية القادمة.

إن الحوار الارتجالي الإبداعي بين تصرفاتها الغنائية وتصرفات عازفيها، ثم الحوار التحتي الذي يدور بين الآلات المنفردة من كمان وقانون ورق وعود وناي وكونترباص، هي خلاصة ذلك الشكل الفني الذي تخصصت به أم كلثوم في القرن العشرين، امتدادا لفلسفة الارتجال في الموسيقى والغناء العربية في القرن التاسع عشر، وتطويرا خلاقا لتلك الفلسفة والتقاليد الفنية والجمالية الفاحشة الثراء.
2012-04-09_00108


تم تحرير المشاركة بواسطة :rose بتاريخ:23-11-2012 03:01 مساءً

توقيع :rose
Living in the past causes you to miss out on the present. Life is too short to let it pass you by.


look/images/icons/i1.gif سر ام كلثوم و حنجرتها الفريدة
  24-11-2012 03:11 مساءً   [3]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 2
المشاركات : 3381
الدولة : مصر
الجنس :
تاريخ الميلاد : 8-8-2000
الدعوات : 1
قوة السمعة : 417
التعليم : ثانوي
الهواية : شعر
موضووع رااائع بجد و كفااية اغنية " انت عمري " اللي لازم اسمعهالها كل يوم <3 <3

شكرا رووز


look/images/icons/i1.gif سر ام كلثوم و حنجرتها الفريدة
  24-11-2012 06:12 مساءً   [4]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 8
المشاركات : 3082
الدولة : Egypt
الجنس :
الدعوات : 2
قوة السمعة : 929
التعليم : ابتدائي
الهواية : شعر
وانا كمان يا هانا بحب الاغنية دي اوييييي
منورة الموضوع :)
توقيع :rose
Living in the past causes you to miss out on the present. Life is too short to let it pass you by.


look/images/icons/i1.gif سر ام كلثوم و حنجرتها الفريدة
  24-11-2012 09:40 مساءً   [5]
معلومات الكاتب ▼
تاريخ الإنضمام : 2008-08-27
رقم العضوية : 6
المشاركات : 9822
الدولة : EG
الجنس :
الدعوات : 29
قوة السمعة : 1561
التعليم : جامعي
الهواية : طهي
دائما رائعة
موضوع رائع ومتكامل شكرا لكى
توقيع :رحمة
quicklook4u-bffcd6e0bc

اضافة رد جديد اضافة موضوع جديد
الصفحة 2 من 2 < 1 2 >




المواضيع المتشابهه
عنوان الموضوع الكاتب الردود الزوار آخر رد
ترجمةعمرو بن كلثوم رحمة
6 4565 rose
قصيدة احمد رامى فى وداع ام كلثوم ( وفاء و محبة و سلام) رحمة
1 2096 رحمة

الكلمات الدلالية
سر ، ام ، كلثوم ، حنجرتها ، الفريدة ،









الساعة الآن 01:04 PM